
بقلم/ د. هالة الشاروني – كاتبة أطفال – مصر
(1) : الرجل المهم !!
فى تمام العاشرة مساء يوم الجمعة ، من شهر فبراير عام 2007 ، توجهت مع أسرتى الصغيرة إلى السينما وسط المدينة ، وتركنا السيارة فى شارع عماد الدين ، بجوار الرصيف أمام ماكينة دفع نقود الانتظار ، وتحركنا إلى دار العرض ، وفى الساعة الثانية عشرة خرجنا وتوجهنا إلى سيارتنا ، فوجئنا بسيارة ضخمة تقف صفًّا ثانيًا ، وتُغلق الطريق أمامنا ، فلم نستطع التحرُّك من مكاننا ، فقد استخدم صاحبها كل الوسائل التى تجعل تحريكها من مكانها مُستحيلاً . ووقفنا لمدة تزيد على ثـُـلث الساعة ، لكننا لم نتوصَّل إلى صاحب السيارة ، وبالمصادفة مرَّت عربة شرطة النجدة ، فاستغثت بها . وكنت قد وضعت الكارت فى عدَّاد نقود الانتظار ، استعدادًا لمحاولة التحرُّك المُستحيلة ، وبعد 10 دقائق كان يجب أن أدفع مرة ثانية ، لأن صاحب السيارة العجيبة لم يكترث بتعطيل غيره من الناس !! وفى لحظة وصول قائد حملة المرور ، وصل سائق السيارة ، وبدأت إجراءات فحص الرُّخَص ، وعلى ما يبدو شاهَدَنا صاحب السيارة ، فجاء مُتبخترًا مُختالاً ، ليسأل فى مُنتهى البرود ، بعد 45 دقيقة من وقوفنا فى الشارع ، بعد مُنتصف الليل : ” ماذا حدث ؟ ” وعندما عرف ، قال : ” أُحرك لكم السيارة ” . فقـُلت : ” وعليك دفع مُقابل انتظارى ، لأننى أقف مُنذ 45 دقيقة فى انتظار سيادتك ” . فأجاب بمُنتهى ( العنجهية ) : ” أنتِ ادفعى فلوسك ” . وذهب ليتراجع بسيارته إلى الخلف ، لا إلى موقف مماثل لنا بجوار عدَّادات الدفع ، حتى لا يدفع مُقابل الانتظار ، وأيضًا استمر فى تعطيل المرور . إلى هنا والحكاية تبدو عادية ، لكن ما ليس عاديًّا ، هو أن أحد السُّيَّاس ، قال لى: ” لا تُعقِّدى الأمور يا سيدتى ، ومشِّيها ، وادفعى أنتِ ، لأن ده ابن رجل مُهم ، انظرى إلى أرقام سيارته ، دى أربعة أرقام فقط ” . وتنبهت هنا فقط إلى أرقام السيارة ، وكانت أرقام السيارات وقتها مختلفة . أعتقد أن أى إنسان يُصبح مُهمًّا عندما نـُـصبح فى حاجة إليه ، فالمليونير بنقوده كلها إذا مرض .. يُصبح الطبيب أهم رجل فى حياته ، والملياردير إذا اُتهم فى قضية ، وكان الشاهد على براءته رجل فقير ، لا يملك ثمن عشائه ، رث الثياب .. فهو فى هذه الحالة ، أهم رجل فى حياة صاحب الملايين ، وكل أم وكل أب .. أهم إنسان فى حياة أسرتهم ، فلماذا المطلوب منى أن أصمت ، لأن هذا شخص مُهم بنقوده ؟! يا سادة لا أعتقد أن النقود تُعطى الإنسان الأفضلية عند الله ، فكلنا أمام الله ، وعند الحساب سواسية ، ولن يخص الله – سبحانه وتعالى – هذا الشخص بحساب مُختلف ، لأنه ابن رجل مُهم أو غنى أو أى شىء آخر ، لكن سيُحاسبه عمَّا فعله للآخرين أو بالآخرين ، ومعظمنا وُلِد بعد تسعة أشهر حمل ، وسنموت وندفن فى التراب ، ولن يخص الله إنسانـًا بتأجيل حسابه ، لأنه غنى أو ابن رجل مُهم .. فكلنا أمام الله سبحانه وتعالى متساوون ، والله على كل شىء قدير .
(2) : لا تنشغلوا بغير المقصود ..
قالَ الفيلسوفُ العربىَّ ” الغزالى ” : إن أهلَ الدنيا فى انشغالِهم واهتمامِهم بأحوال الدنيا ، ونسيانِ الآخرةِ وإهمالِهم لها ، مثلُ قومٍ ركبوا سفينةً فى البحرِ ، وذهبوا إلى جزيرةٍ لقضاءِ بعضِ الأمورِ التى تُعينُهم على السفرِ ، فلما نزلوا ، قالَ لهم الربانُ لا تشتغلوا بغيرِ المهم ، لئلا تفوتَكم السفينةُ فتهلكوا . فمضَوْا وتَفرَّقُوا فى الجزيرةِ ، وانتَشروا فى نواحيها . أولُ جماعةٍ منهم ، لم يشتغلوا إلا بما نزلوا لأجلِه ، وعادوا إلى السفينةِ ، فوجدوا الأماكنَ خاليةً ، فجلسوا فى راحةٍ واسعةٍ . ومنهم مَنْ نظروا إلى عجائبِ تلك الجزيرةِ ، وأخذوا يتنزهونَ ويتعجبونَ من محاسنِها ، ولما عادوا ، لم يجدوا لهم أماكنَ ، فجلسوا فى أضيقِها وأظلمِها . ومنهم مَنْ وقفوا مع عجائبِ تلك الجزيرةِ ، وتعلقَتْ قلوبُهم بها ، ولم يُفكِّروا فى الرجوعِ ، حتى سارَتِ السفينةُ ، وتركَتـْهم لمصيرِهم .
(3) : حكاية أب ” قبل الرحيل وضع ابنته على الطريق “
منذ حوالى أربعين عامًا ، عندما كنت فى الثالثة عشرة من العُمر ، قال لى والدى : ” أصبحتِ الآن فتاة كبيرة ، وأنت تحكى الحكايات بطريقة رائعة ، سأتفق مع المدارس لتذهبى إليها ، وتحكى الحكايات بالفانوس السحرى والشرائح للأطفال ، وذلك فى إجازتك الأسبوعية كل يوم خميس ” . ووافقت ، ولكن كانت هناك مشكلة ، لا أعرف الطريق إلى المدارس ، وخاصة أنها فى أحياء بعيدة ومزدحمة ، ولا أعرف طُرقا واضحة لها ، قال لى والدى : ” لا مشكلة ، سوف أذهب بك إلى المدرسة ، وأعود لاصطحابك إلى البيت ” . وهكذا قضيت سنتين من المرحلة الإعدادية ، وسنتين من المرحلة الثانوية ، أذهب يومًا فى الأسبوع ، لحكى الحكايات فى المدارس الابتدائية . ولم تنتهِ الخبرة عند هذا الحد ، لكن طلب منى الوالد ، كتابة تقرير عن كل يوم أحكى فيه الحكايات ، عن الأسئلة التى طرحها الأطفال ، والإجابات هل هى مناسبة للأسئلة ، أم كان هناك إجابة غير مُقنعة للسؤال ، وهل شعرت بالاستحسان أو الرضا ، أم لا ، وغيرها من البيانات ، التى من خلال بعض المواقف أكتب الآن الكثير من القصص عنها ، وكان والدى يجلس ليناقشنى فى كل كلمة أكتبها فى تقريرى ، حتى الصياغة علمنى إياها ، فعلاً لم أكن أتخيل أنه وضعنى على طريق التأليف والصياغة والمواجهة والدقة فى الكلام والوضوح ، وعندما قدمت برامج التليفزيون ، مثل : اصنع بنفسك وهوايات ، لمدة تزيد على العشرين سنة ، كانت لدىَّ خبرة كبيرة ، حبَّبت جمهور المشاهدين لأعمالى ، والفضل كله لأبى ، الذى وضعنى على الطريق منذ نعومة أظفارى ، ورحل مطمئنـًا على ابنته .. إنها حكاية أب وضع ابنته على الطريق ورحل .

المصدر: جريدة وطني